كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وينتقل من هذا الدليل الذاتي إلى دليل آخر خارجي:
{وإنه لفي زبر الأولين أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل}.
فقد وردت صفة الرسول الذي ينزل عليه القرآن، كما وردت أصول العقيدة التي جاء بها في كتب الأولين.
ومن ثم كان علماء بني إسرائيل يتوقعون هذه الرسالة، وينتظرون هذا الرسول، ويحسون أن زمانه قد أظلهم؛ ويحدث بعضهم بعضًا بهذا كما ورد على لسان سلمان الفارسي، ولسان عبد الله بن سلام رضي الله عنهما والأخبار في هذا ثابتة كذلك بيقين.
إنما يكابر المشركون ويعاندون لمجرد المكابرة والعناد، لا لضعف الحجة ولا لقصور الدليل؛ فلو جاءهم به أعجمي لا ينطق العربية فتلاه عليهم قرآنًا عربيًا ما آمنوا به، ولا صدقوه، ولا اعترفوا أنه موحى به إليه، حتى مع هذا الدليل الذي يجبه المكابرين:
{ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين}.
وفي هذا تسرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصوير لعنادهم ومكابرتهم في كل دليل. ثم يعقب على هذا بأن التكذيب مكتوب على القوم ملازم لهم بحكم عنادهم ومكابرتهم. فهكذا قضي الأمر أن يتلقوه بالتكذيب، كأنه طبع في قلوبهم لا يحول. حتى يأتيهم العذاب وهم في غفلة لا يشعرون:
{كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون}.
والتعبير يرسم صورة حسية لملازمة التكذيب لهم. فيقول: إنه على هذه الهيئة. هيئة عدم الإيمان والتكذيب بالقرآن. على هذه الهيئة نظمناه في قلوبهم وأجريناه. فهو لا يجري فيها إلا مكذبًا به. ويظل على هيئته هذه في قلوبهم {حتى يروا العذاب الأليم}. {فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون}. وقد بقي بعضهم فعلًا على هذا الوضع حتى فارق هذه الأرض بالقتل أو الموت، ومن ثم إلى العذاب الأليم، وفي هذه اللحظة فقط يفيقون:
{فيقولوا هل نحن منظرون}.
هل نحن مؤجلون إلى فرصة أخرى، نصلح بها ما فات. وهيهات هيهات!
ولقد كانوا يستعجلون عذاب الله، على سبيل الاستهزاء والاستهتار، واغترارًا بما هم فيه من متاع، يبلد حسهم، ويجعلهم يستبعدون النقلة منه إلى العذاب والنكال. شأنهم شأن ذوي النعمة قلما يخطر ببالهم أن تزول؛ وقلما يتصورون أن تحول. فهو يوقظهم هنا من هذه الغفلة، ويرسم لهم صورتهم حين يحل بهم ما يستعجلون:
{أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون}.
فيضع صورة الاستعجال بالعذاب في جانب. وفي الجانب الآخر تحقق الوعيد. وإذا سنون المتاع ساقطة كأنها لم تكن، لا تغني عنهم شيئًا، ولا تخفف من عذابهم.
وفي الحديث الصحيح: «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له: هل رأيت خيرًا قط؟ هل رأيت نعيمًا قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسًا كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له: هل رأيت بؤسًا قط؟ فيقول: لا والله يا رب».
ثم يخوفهم بأن الإنذار مقدمة الهلاك. وأن رحمة الله ألا يهلك قرية حتى يبعث فيها رسولًا، يذكرها بدلائل الإيمان:
{وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين}.
ولقد أخذ الله على البشر عهد الفطرة أن يوحدوه ويعبدوه. والفطرة بذاتها تحس بوجود الخالق الواحد ما لم تفسد وتنحرف. وبث دلائل الإيمان في الكون، كلها يوحي بوجود الخالق الواحد. فإذا نسي الناس عهد الفطرة؛ وأغفلوا دلائل الإيمان، جاءهم نذير يذكرهم ما نسوا، ويوقظهم إلى ما أغفلوا. فالرسالة ذكرى تذكر الناسين وتوقظ الغافلين. زيادة في العدل والرحمة {وما كنا ظالمين} في أخذ القرى بعد ذلك بالعذاب والهلاك. فإنما هو جزاء النكسة عن خط الهدى ومنهج اليقين.
ثم يبدأ معهم جولة جديدة عن القرآن الكريم:
{وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون}.
لقد قرر في الجولة الماضية أنه تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين؛ واستطرد مع تكذيبهم به، واستعجالهم ما يتوعدهم من عذاب فيه، وها هو ذا ينفي دعواهم أنه من وحي الشياطين على طريقة الكهان، الذين كانوا يزعمون أن الشياطين تأتيهم بخبر الغيب، وبالسمع الذي يتكهنون فيه بالأخبار.
وما يليق هذا القرآن بالشياطين. وهو يدعو إلى الهدى والصلاح والإيمان. والشياطين تدعو إلى الضلال والفساد والكفر.
وما هم بمستطيعين أن يأتوا به. فهم معزولون عن سماع الوحي به من الله. إنما يتنزل به الروح الأمين، بإذن من رب العالمين. وليس هذا بميسور للشياطين.
وهنا يلتفت بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذره من الشرك وهو أبعد من يكون عنه ليكون غيره أولى بالحذر. ويكلفه إنذار عشيرته الأقربين. ويأمره بالتوكل على الله، الذي يلحظه دائمًا ويرعاه:
{فلا تدع مع الله إلهًا آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم}.
وحين يكون الرسول صلى الله عليه وسلم متوعدًا بالعذاب مع المعذبين، لو دعا مع الله إلهًا آخر. وهذا محال ولكنه فرض للتقريب. فكيف يكون غيره؟ وكيف ينجو من العذاب من يدعو هذه الدعوة من الآخرين؟! وليس هنالك محاباة، والعذاب لا يتخلف حتى عن الرسول، لو ارتكب هذا الإثم العظيم!
وبعد إنذار شخصه صلى الله عليه وسلم يكلف إنذار أهله. لتكون لمن سواهم عبرة، أن هؤلاء يتهددهم العذاب لو بقوا على الشرك لا يؤمنون: {وأنذر عشيرتك الأقربين}.
روى البخاري ومسلم أنه لما نزلت هذه الآية أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى: يا صاحباه! فاجتمع الناس إليه، بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب. يا بني فهر. يا بني لؤي. أرأيتم لو أخبرتك أن خيلًا بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟» قالوا: نعم. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد». فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم! أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله: {تبت يدا أبي لهب وتب}.
وأخرج مسلم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا فاطمة ابنة محمد. يا صفية ابنة عبد المطلب. يا بني عبد المطلب. لا أملك لكم من الله شيئًا. سلوني من مالي ما شئتم».
وأخرج مسلم والترمذي بإسناده عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا فعم وخص فقال: «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار. فإني والله لا أملك لكم من الله شيئًا. إلا أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها».
فهذه الأحاديث وغيرها تبين كيف تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر، وكيف أبلغه لعشيرته الأقربين، ونفض يده من أمرهم، ووكلهم إلى ربهم في أمر الآخرة، وبين لهم أن قرابتهم له لا تنفعهم شيئًا إذا لم ينفعهم عملهم، وأنه لا يملك لهم من الله شيئًا، وهو رسول الله، وهذا هو الإسلام في نصاعته ووضوحه، ونفي الوساطة بين الله وعباده حتى عن رسوله الكريم.
كذلك يبين الله لرسوله كيف يعامل المؤمنين الذين يستجيبون لدعوة الله على يديه:
{واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين}.
فهو اللين والتواضع والرفق في صورة حسية مجسمة. صورة خفض الجناح، كما يخفض الطائر جناحيه حين يهم بالهبوط. وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين طوال حياته. فقد كان خلقه القرآن. وكان هو الترجمة الحية الكاملة للقرآن الكريم.
وكذلك بين الله له كيف يعامل العصاة فيكلهم إلى ربهم، ويبرأ مما يعملون:
{فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون}.
وكان هذا في مكة، قبل أن يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين.
ثم يتوجه به صلى الله عليه وسلم إلى ربه، يصله به صلة الرعاية الدائمة القريبة:
{وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم}.
دعهم وعصيانهم، متبرئًا من أعمالهم، وتوجه إلى ربك معتمدًا عليه، مستعينًا في أمرك كله به.
ويصفه سبحانه بالصفتين المكررتين في هذه السورة: العزة والرحمة. ثم يشعر قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بالأنس والقربى. فربه يراه في قيامه وحده للصلاة، ويراه في صفوف الجماعة الساجدة. يراه في وحدته ويراه في جماعة المصلين يتعهدهم وينظمهم ويؤمهم ويتنقل بينهم. يرى حركاته وسكناته، ويسمع خطراته ودعواته: {إنه هو السميع العليم}.
وفي التعبير على هذا النحو إيناس بالرعاية والقرب والملاحظة والعناية. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعر أنه في كنف ربه، وفي جواره وقربه. وفي جو هذا الأنس العلوي كان يعيش.
والجولة الأخيرة في السورة حول القرآن أيضًا. ففي المرة الأولى أكد أنه تنزيل من رب العالمين. نزل به الروح الأمين. وفي المرة الثانية نفى أن تتنزل به الشياطين. أما في هذه المرة فيقرر أن الشياطين لا تتنزل على مثل محمد صلى الله عليه وسلم في أمانته وصدقه وصلاح منهجه؛ إنما يتنزل على كل كذاب آثم ضال من الكهان الذين يتلقون إيحاءات الشياطين ويذيعونها مع التضخيم والتهويل:
{هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون}.
وكان في العرب كهان يزعمون أن الجن تنقل إليهم الأخبار، وكان الناس يلجأون إليهم ويركنون إلى نبوءاتهم. وأكثرهم كاذبون. والتصديق بهم جري وراء الأوهام والأكاذيب. وهم على أية حال لا يدعون إلى هدى، ولا يأمرون بتقوى، ولا يقودون إلى إيمان. وما هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو الناس بهذا القرآن إلى منهج قويم.
ولقد كانوا يقولون عن القرآن أحيانًا: إنه شعر، ويقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه شاعر. وهم في حيرتهم كيف يواجهون هذا القول الذي لا يعرفون له نظيرًا، والذي يدخل إلى قلوب الناس، ويهز مشاعرهم، ويغلبهم على إرادتهم من حيث لا يملكون له ردًا.
فجاء القرآن يبين لهم في هذه السورة أن منهج محمد صلى الله عليه وسلم ومنهج القرآن غير منهج الشعراء ومنهج الشعر أصلًا. فإن هذا القرآن يستقيم على نهج واضح، ويدعو إلى غاية محددة، ويسير في طريق مستقيم إلى هذه الغاية. والرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول اليوم قولًا ينقضه غدًا، ولا يتبع أهواء وانفعالات متقلبة؛ إنما يصر على دعوة، ويثبت على عقيدة، ويدأب على منهج لا عوج فيه. والشعراء ليسوا كذلك. الشعراء أسرى الانفعالات والعواطف المتقلبة. تتحكم فيهم مشاعرهم وتقودهم إلى التعبير عنها كيفما كانت. ويرون الأمر الواحد في لحظة أسود. وفي لحظة أبيض. يرضون فيقولون قولًا، ويسخطون فيقولون قولًا آخر. ثم هم أصحاب أمزجة لا تثبت على حال!
هذا إلى أنهم يخلقون عوالم من الوهم يعيشون فيها، ويتخيلون أفعالًا ونتائج ثم يخالونها حقيقة واقعة يتأثرون بها.
فيقل اهتمامهم بواقع الأشياء، لأنهم يخلقون هم في خيالهم واقعًا آخر يعيشون عليه!
وليس كذلك صاحب الدعوة المحددة، الذي يريد تحقيقها في عالم الواقع ودنيا الناس. فلصاحب الدعوة هدف، وله منهج، وله طريق. وهو يمضي في طريقه على منهجه إلى هدفه مفتوح العين، مفتوح القلب، يقظ العقل؛ لا يرضى بالوهم، ولا يعيش بالرؤى، ولا يقنع بالأحلام، حتى تصبح واقعًا في عالم الناس.
فمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهج الشعراء مختلفان، ولا شبهة هناك، فالأمر واضح صريح: {والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون}.
فهم يتبعون المزاج والهوى ومن ثم يتبعهم الغاوون الهائمون مع الهوى، الذين لا منهج لهم ولا هدف.
وهم يهيمون في كل واد من وديان الشعور والتصور والقول، وفق الانفعال الذي يسيطر عليهم في لحظة من اللحظات تحت وقع مؤثر من المؤثرات.
وهم يقولون مالا يفعلون. لأنهم يعيشون في عوالم من صنع خيالهم ومشاعرهم، يؤثرونها على واقع الحياة الذي لا يعجبهم! ومن ثم يقولون أشياء كثيرة ولا يفعلونها، لأنهم عاشوها في تلك العوالم الموهومة، وليس لها واقع ولا حقيقة في دنيا الناس المنظورة!